الوداع من مدونة الكاتب الهولندي مارتاين كنول
ترجمة: أمينة عابد
في مساء البارحة عدت بعد غروب الشمس إلى الحي على دراجتي
الهوائية، استطعت أن أصل في الوقت المناسب لأودع جيراني الأتراك الساكنين قبالتي.
لقد غادروا بسيارة الـ«سبيس فاغن» المصلَّحة حديثاً والمحمَّلة بالأغراض صوب
استانبول. لم يضغطوا على بوق السيارة لأن الشارع كان غاطاً في
النوم. بعد ظهر يوم الأمس سمعتُ ابنتهم الصغرى، أوزغور، تودع صديقتها الحميمة مريم،
ابنة جيراني المغاربة. كانت إحداهما تجلس إلى جانب الأخرى على حائط منخفض. بينما كنت
أفتح قفل دراجتي الهوائية، سمعت مريم وهي تقول لها: «إن متِ، لن أراك مرة أخرى على
الإطلاق.»
تجلس مريم على المقعد الخلفي لدراجة الأطفال. على الرغم
من الطقس الدافئ، فإنها ترتدي جاكيت أختها الكبيرة ذا اللون الأزرق الداكن. وبين
ذراعيها قطٌ بلون صدفة السلحفاة، يهرهر باسترخاء.
تقول لي، عندما أمرُّ من جانب موقف الدراجات الهوائية:
- هذا القط لي.
وتداعب رأس القط بإحدى يديها.
- هذا القط لي.
وتداعب رأس القط بإحدى يديها.
فأقول لها:
- وااو! يا له من قط جميل!
تومئ مريم إيماءة موافقة برأسها، ثم تقول:
- القطط تهرهر عندما تكون سعيدة.
- معنى ذلك أن هذا القط سعيدٌ سعادة عظيمة.
ننصت إلى هرهرة القط برهة يسيرة من الوقت. مريم تنظر إلي
بافتخار. طبعاً، لست سخيفاً إلى درجة أن أقول لها إنني لم أرَ في حياتي قطاً يشبه
قط جارتنا إيلين مثل قط مريم.
- ما اسمه؟
- مَن؟
- القط.
- ...
- ألم تسميه بعد؟
- بلى
- ما اسمه إذن؟
- أحمد.
من رواية «في مكان آخر» للكاتب الهولندي مارتاين كنول
ترجمة: أمينة عابد
الستائر السميكة مفتوحة، والستائر الشفافة مسدلة. نراقب
من سريرنا غروب الشمس. إنه يوم بارد من أيام تشرين الثاني (نوفمبر). لكن جو الغرفة
يبلغ من الحرارة أننا لم نغطِ أنفسنا بأكثر من شرشف واحد. إنني أخبر أمك كيف أنني
قبل سنوات، بعد تخرجي من الجامعة بوقت قصير، عدت في الظلام إلى البيت من عملي
الأول، ووقفت في مطبخ شقتي أطبخ طنجرة من الأكلة الصينية «بامي». بينما أفرم
الكراث على شكل حلقات، كنت أرقص على الموسيقا المتعالية من الراديو المحمول الذي آخذه
معي إلى كل بيت أنتقل إليه منذ دراستي الإعدادية. أضع السكين على لوح الفرم الخشبي
من أجل أن أطلق العنان لنفسي في الرقص. آخذ بالتمايل، ألكز بوركي أثاث المطبخ، وعندما
ألتفت راقصاً ربع التفاتة، أرى فتاة ترقص هي أيضاً في المطبخ المضيء في الشقة
الواقعة على الجهة الأخرى من ساحة وقوف السيارات التي تترامى مثل بحيرة وسط
البنايات. نلاحظ أن أحدنا قد رأى الآخر ونستمر في الرقص بلا اكتراث - شخصان وحيدان
ينصهران في رقصة واحدة. على الرغم من المسافة البعيدة بيننا، نرقص واحدنا مع
الآخر. أرى من حركاتها، ومن الطريقة التي تهز بها وركها وتمايل بها كتفيها –
وكأنها على وجه التقريب تقوم بخلع قميصها دون أن تستعمل يديها – أنها ترقص على
الأغنية نفسها التي أرقص أنا عليها. إننا نستمع إلى نفس المحطة الإذاعية التجارية.
المسافة بيني وبينها تبلغ من البعد أنني لا أستطيع أن أقرأ تعابير وجه الفتاة، ومع
ذلك فإن هذه الرقصة لا تؤثر في عواطفي فحسب، بل تستثير مشاعري الجنسية أيضاً. أشعر
بكيس الصفن يأخذ بالانكماش، وبرعشة تهفو من عصعصي وحتى لوح كتفي. يرقص أحدنا مع
الآخر مدة دقيقتين أو ربما ثلاث دقائق – لم يحدث قط أنني تحركت بمثل هذه المرونة
والليونة، أنا زيت الزيتون الذي يسيل من الزجاجة إلى الطنجرة. هذا شيء ساحر ويحدث مرة
واحدة. أعرف من تكون الفتاة، أعرفها من الشكل والوجه، ولكن حتى بعد هذه الليلة إن
التقينا بحكم المصادفة، أومأ أحدنا إلى الآخر بإيماءة من الرأس فحسب. والدتك
تسألني شيئاً عن الحب، والوصال، والقدَر، والارتباط. أجيبها بجواب يشعرها بالرضى
والسعادة.
من رواية «يمكن لأي شيء أن ينكسر» للكاتب الهولندي
مارتاين كنول
ترجمة: أمينة عابد
كانت تعتريها رغبة عارمة في أن تخبر والدها بكل شيء عن
نوبات الغضب التي تنتاب كات، لكنها مع ذلك لم تتحدث سوى عن اللوحات التي تشتغل
عليها. لم تخبره بأن ذراعها اليسرى موضوعة بالجبس لأن كات كسرتها بزجاجة نبيذ.
بعد أن أنهت سيرافاين مكالمتها الهاتفية، مضت إلى مرسمها
وجلست إلى إحدى الطاولات وانهمكت في العمل. كانت كات ترقد بهدوء متوعد تحت جهاز
التشميس المُطفَأ. كانت مكتئبة ومشاكسة منذ عدة أيام. أدارت رأسها إلى سيرافاين،
فقالت لها سيرافاين دون أن ترفع عينيها عن كراسة الرسم:
- هل نذهب لتناول شيء من الطعام؟
- لست جائعة.
- هل ترغبين في السباحة؟
- بهذا الحافر الموضوع في الجبس؟!
- بوسعك أن تدخلي إلى المياه فقط، أليس كذلك؟
- ولماذا يجب أن أسبح؟
- ...
- وما لك أنت في هذا الأمر؟
- ...
- أم أنك تريدين التخلص مني فحسب؟
- لا إطلاقاً. ثم إن الوقت قد تأخر على الذهاب للسباحة.
رفعت سيرافاين عينيها عن كراستها. كانت كات قد خرجت من «حمام
الشمس» وسارت باتجاهها وعضلات وجهها تكاد تنفجر من الغضب. استنشقت الهواء ورددت:
- وما لك أنت في هذا الأمر؟
- في المرات الماضية...
- وما
- آخ!
- لك
- آخ!
- أنت
- ...
- في
- آخ، كات!
- هذا؟
- آخ، كات! إنك توجعينني كثيراً!
- الأمر؟
- ...
- وما لك أنت في هذا الأمر؟
- حسناً، كما تريدين. وما لك أنت في هذا الأمر؟
وافقتها، وسايرتها، وأكدت على صحة كلامها عساها أن تهدئ
من غضبها قبل أن يحتدم مزيداً من الاحتدام. لكن كات لكمتها بقوة على ذراعها، وعلى
قفصها الصدري، وفي وجهها. تمسكت سيرافاين بإحدى زوايا الطاولة وهي لا تصدق أنها
تتلقى الضربات.
وبينما كات تمضي إلى النافذة، وتنظر عبرها إلى الخارج
دون أن ترى شيئاً على الأرجح، تلمست سيرافاين عينها وشفتها العليا وتحسست بإبهامها
وسبابتها سنها التي كانت تهتز اهتزازاً بسيطاً، أخرجتها من فمها ووضعت الكتلة
العاجية على راحة يدها. كان ثمة خط من الدم عليها. كان بوسعها أن تتحمل الكثير من الألم،
لكنها من شدة ما ارتعبت، بدأت تبكي.
صرخت بها كات: «كفى!»
وسارت نحوها مثل لاعب كرة قدم يذهب لركل ضربة جزاء. هبت
سيرافاين واقفة لتهرب من المرسم، ولم تستطع أن تكف عن البكاء. بينما كات تركلها
بقدمها اليمنى، تدلت غلالة من شعرها الأشقر حول رأسها مثل سحابة حبلى بالمطر.
أصابت فخذ سيرافاين إصابة بلغت من القوة أنها اضطرت أن تستند إلى الحائط ولكن مع
ذلك وقعت على الأرض. انزلقت الصور والنسخ والقصاصات معها إلى الأرض.
أمسكت كات يديها وكأنها تريد أن تساعدها في الوقوف،
وأخذت تديرها حول نفسها دون اهتمام بذراعها المكسورة - طفلان (في مساء شاعري صيفي،
في حديقة خلفية ندية) يحاول أحدهما أن يدور حول الآخر بأقصى سرعة ممكنة، إلى أن
فكت كات يديها وانطلقت سيرافاين من الأرض وطارت لأول مرة في حياتها إلى داخل
مرسمها، ورأت من الجو الطاولات، والخزانات، والمناشف، والنوافذ العالية، وشجرة
النخيل الكبيرة في الزاوية – إلى أن اصطدمت باللوحة التي ما زالت تشتغل عليها
وتهاوت مع حامل اللوحات وكل شيء على الأرض.
أسرعت كات إليها وهي تغمغم، أمسكتها بقوة، وخبطتها خبطة
قوية على الحائط. ثم التقطت حامل اللوحات الواقع على الأرض بيديها الاثنتين وضربت
به باتجاه رأس سيرا. نكست سيرافاين رأسها ففتح حامل اللوحات فجوة كبيرة في الجدار
العازل المصنوع من الجبس. اندفعت من الفتحة سحابة من الغبار وبودرة الجبس.